المتنبي وخصومه
صفحة 1 من اصل 1
المتنبي وخصومه
مــرتزقة ومــــوهوبون
في كل بيئة أدبية وثقافية يظهر المرتزقة والموهوبون, ويدور بينهما صراع عنيف ينتهي بانتصار أحد الجانبين, وللأسف فإن الموهوبين هم الذين يتعرضون في معظم الأحوال للهزيمة, لأن عددهم أقل, ولأنهم ينصرفون بجهودهم إلي تنمية مواهبهم والتعبير عن هذه المواهب بأفضل صورة, فالموهبة تحتاج إلي الاتقان, والموهوب الحقيقي لا يلتفت الى المؤامرات والدسائس أو يفكر فيها وإلا فقد قدرة التركيز على موهبته, وهذا التركيز هو مهمته الأولي في الحياة, وفي المقابل فإن مرتزقة الأدب والثقافة يعيشون علي تلك المؤامرات والدسائس, لأن هؤلاء المرتزقة إن كانوا موهوبين في شيء فإن ذلك هو صناعة التآمر, والعمل الأصلي لهؤلاء المرتزقة هو شن الحرب على الموهوبين وتنكيد عيشهم ووضع العقبات في طريقهم.
ونعود الى بعض الصفحات في تاريخ الأدب العربي, لنجد أمامنا فصلا مؤلما من فصول الحرب المستمرة والمتكررة بين المرتزقة والموهوبين, ويتجسد هذا الفصل في قصة المتنبي مع الحياة الأدبية في مصر, في عصر كافور الإخشيدي, ففي هذا العصر جاء المتنبي الى مصر وقضي فيها مايقرب من خمس سنوات دون انقطاع, وكان المتنبي يمثل أرقي ما وصلت إليه الموهبة الشعرية العربية في عصره, ولم يكد المتنبي يصل الى مصر حتي ثار الحسد والحقد في قلوب المرتزقة الذين أحسوا منذ اللحظة أن وصول المتنبي العظيم فيه خطر غير محدود عليهم, وعلى ما هم فيه يرتعون من مناصب وممتلكات مادية مختلفة تتيح لهم الرخاء والاسترخاء, وقد كان هؤلاء المرتزقة جميعا بالنسبة للمتنبي من أصحاب المواهب المحدودة أو المتوسطة في أحسن الأحوال, ولم يطق هؤلاء المرتزقة وجود المتنبي في مصر, لأن المتنبي سوف يطفيء نورهم ويقضي على انفرادهم بالنفوذ والسلطة, بما يملكه من قوة العبقرية والنبوغ, مع شدة اعتزازه بكرامته الفنية والشخصية.
كان المتنبي قد ترك سيف الدولة في حلب بعد أن قضي في بلاطه تسع سنوات, هي أسعد سنوات عمره وأخصب مراحل إبداعه الفني, فقد كتب خلالها مجموعة من أروع قصائده, وعندما علم كافور, حاكم مصر في ذلك الحين, بنبأ الخلاف الذي نشأ بين سيف الدولة والمتنبي, بذل جهدا كبيرا لاقناع المتنبي بالذهاب الى مصر. وأعطي للمتنبي وعودا كثيرة, حتي وافق المتنبي على التوجه الى مصر فوصلها سنة346 هـ وبقي فيها الى سنة350 هـ. وفي مصر كان هناك طبقة من المثقفين تحيط بكافور الإخشيدي, وكان على رأس هؤلاء جميعا وزير هو جعفر بن الفضل بن جعفر الذي كان معروفا باسم ابن حنزابة نسبة الى أمه وكان اسمها حنزابة ولا أدري من أين جاء هذا الاسم, وأغلب الظن أنه اسم فارسي أو تركي. المهم أن الوزير ابن حنزابة هذا قد طمع في أن يمدحه المتنبي ببعض شعره, ولكن المتنبي لم يتجاوب مع رغبات الوزير, ولعل المتنبي كان يحس أنه لم يأت الى مصر ليمدح كل من هب ودب, وكل من يستحق أو لا يستحق, هذا والمتنبي لم يقطع صلته بسيف الدولة, ويطوي المسافات الشاسعة ليمدح الوزراء وأشباه الوزراء, ومن هنا بدأ ابن حنزابة في التآمر على المتنبي وتشويه سمعته والعمل على
إثارة حاكم مصر كافور الإخشيدي ضد هذا الشاعر العظيم.
أخذ الوزير الموتور يردد في كل مكان بأن المتنبي يسرق معانيه من شعراء آخر, فهو ليس بشاعر ولكنه لص, كذلك أخذ الوزير يجمع حوله بنفوذه عددا من مرتزقة الشعر والأدب ليجعل منهم حزبا ثقافيا ضد المتنبي, وكان بين هؤلاء شاعر اسمه أبو القاسم ابن العفير فأخذ يهجو المتنبي بشعر محدود القيمة, لا جمال فيه ولا عمق ولا صدق, وكان من بين هؤلاء أيضا عالم لغوي هو محمد بن موسي بن عبدالعزيز الكندي, وكان الناس يسمونه الموسوس, وإن كان قد اشتهر باسم سيبويه المصري وأخذ هذا العالم اللغوي الذي انضم الى حزب المرتزقة يمشي في مجالس العلم ومنتديات الثقافة والأدب معلنا على رؤوس الجميع أن المتنبي يخطيء في اللغة والنحو, وأخذ سيبوبه المصري هذا يتصيد الأخطاء للمتنبي ويفتعل ذلك افتعالا شديدا وينشر علي الناس نبأ هذه الأخطاء المفتعلة, كل ذلك رغم أن المتنبي كان بجانب موهبته الشعرية من أعلم الناس باللغة العربية, ومن أكثرهم فهما وذوقا ومعرفة بأسرار هذه اللغة, ولو لم يكن المتنبي شاعرا كبيرا لكان من عظماء اللغويين, ومع ذلك فقد أصبح الهم الأكبر لسيبويه المصري هو أن يسيء الى المتنبي ويهدم سمعته الأدبية الرفيعة وينغص علىه حياته في مصر,
فكلما أنشأ المتنبي قصيدة جديدة أخذ سيبويه المصري يفتش في هذه القصيدة عن أخطاء, وعندما كان يعجز عن الوصول الى مثل هذه الأخطاء, فإنه كان يلفق العيوب والمآخذ التي لا تقوم على أي أساس من المعرفة أو الذوق, ومن المعروف أن علم النحو العربي حافل بالمدارس المتضاربة والمتناقضة, وبالامكان وصف ما هو صواب في مدرسة نحوية بأنه خطأ في مدرسة نحوية أخري, وهكذا يمكن اللعب بالنحو لتخطئة أعظم الأدباء, فهناك ألاعيب نحوية عند التحقيق فيها فإن العلم ينفيها بصورة كاملة. وتلك اللعبة السخيفة هي التي استخدمها سيبويه المصري في حربه ضد المتنبي من أجل القضاء على هيبته الأدبية. ومن الذين التفوا حول الوزير ابن حنزابة ضد المتنبي شاعر مصري هو ابن وكيع التنيسي نسبة الى جزيرة تنيس في منطقة بحيرة المنزلة في مصر, حيث ولد هذا الشاعر ومات هناك, وابن وكيع بالنسبة الى المتنبي يعتبر شاعرا متوسط الموهبة أو دون ذلك بكثير, ومع ذلك فقد شغل هذا الشاعر نفسه بتأليف كتاب عن سرقات المتنبي من شعر الآخرين, وأسماه باسم المنصف, والحقيقة أن هذا الكتاب لم يكن منصفا أبدا,
وهكذا وقف حزب المرتزقة ضد المتنبي, ذلك الموهوب الأعظم بقصد تحطيمه والإساءة الىه, وبقصد أكبر هو تطفيشه من مصر في أسرع وقت, حتي يرتاح المرتزقة ويناموا مطمئنين.
ولعل هؤلاء المرتزقة لم يجدوا لجهودهم أثرا كافيا, فقد ظل جمهور الأدباء في مصر والعالم العربي يتنافسون على حب المتنبي وقراءة أشعاره ودراستها وترديدها. ومن هنا كان على حزب المرتزقة أن يضرب ضربة أخري قاضية, وهي إفساد العلاقة بين حاكم البلاد كافور والمتنبي, فركزوا جهودهم على توصيل رسائل مستمرة الى كافور تحضه على الحذر من المتنبي والتخلص منه في أسرع وقت, فالمتنبي صاحب طموح سياسي, وقد يتآمر على كافور للاستيلاء على الحكم بدلا منه, وهي خطة معروفة ومتكررة عند أحزاب المرتزقة على مر عصور التاريخ المختلفة, فالمرتزقة يلتفون حول مراكز السلطة, ويصورون لأصحاب هذه المراكز أنهم هم المخلصون دون غيرهم, وبعد أن يجدو أذنا صاغية لهم, فإنهم يبدأون في العمل على تصفية أعدائهم والدس لهم والتخلص منهم, وذلك باتهامهم بأنهم ضد السلطة, وأنهم يعملون على هدم هذه السلطة ثم إقامة سلطة جديدة لهم, والمرتزقة لا يقدمون على شيء من ذلك إلا بعد أن يهيئوا الجو النفسي العام لكي تكون مثل هذه التهمة مقبولة, ومن هنا يسهل للمرتزقة أن يضربوا ضربتهم الأساسية ضد الموهوبين, ويبعدوهم عن الساحة ويقضوا عليهم, خاصة إذا كان هؤلاء الموهوبون من ذوي الاهتمامات السياسية الواضحة مثلما كان الحال مع المتنبي, مما قد يثير الشك والقلق حول هذه الشخصيات.
وهذا هو ماحدث مع المتنبي في مصر, فبعد أن كان كافور سعيدا الى أبعد حد بوجود المتنبي الى جانبه في مصر, تغيرت نفسيته تجاه المتنبي, ويبدو أنه لم يستطع أن يخفي مشاعره, وما كان باستطاعته أن يفعل, فالمتنبي شاعر شديد الحساسية, ولاشك أنه أدرك الانقلاب الذي حدث لكافور, فبدأ يخطط للهروب من مصر, ولم يكن كافور جاهلا بالأدب والثقافة, ولم يكن جاهلا بقيمة المتنبي وأهميته, فقد كان كافور كما قال عنه المؤرخون من محبي الشعر والشعراء, وكان كما يقول المؤرخ الذهبي في كتابه النجوم الزاهرة:.. عظيم الحرمة, خبيرا بالسياسة, فطنا ذكيا, جيد العقل, داهية, وكانت تتم عنده كل ليلة قراءة السير وأخبار الدولتين الأموية والعباسية. ومعني هذه الشهادة لكافور من جانب المؤرخ الذهبي والتي كررها مؤرخون آخرون في حق كافور أنه كان على استعداد لتقدير المتنبي وإعطائه حقه من الحرص عليه وتكريمه ورعايته وحمايته من الحاسدين والحاقدين, أي من حزب المرتزقة الذي يتصدي للموهوبين في كل عصر وكل مكان.. لقد كان ذلك ممكنا لولا حزب المرتزقة الذي التف حول كافور وآثار في قلبه الشكوك والمخاوف, مما أدي بكافور الى التضييق على المتنبي وبث العيون والرقباء عليه لمعرفة حركاته وسكناته, وأدي بكافور أيضا الى إخلاف وعوده للمتنبي, وبذلك انتصر حزب المرتزقة ضد المتنبي, وأصيب الشاعر العظيم بالضيق الشديد من وضعه الأليم, فهرب من مصر وكتب قصائده الهجائية العنيفة ضد كافور ورجاله, وشدد في قصائده هذه على حزب المرتزقة هؤلاء, فأدانهم وفضحهم في قصائد كثيرة وامتلأت أشعار المتنبي بعد خروجه من مصر بالمرارة, ولكنها كانت شعرا قويا خالدا, ولا يزال الكثيرون منا يرددون الى الآن الكثير من أبيات المتنبي ضد كافور ورجاله, وضد أحوال مصر في ذلك العصر الذي تقدم فيه حزب المرتزقة وانهزم حزب الموهوبين, ولاشك أن كافور قد خسر كثيرا بالميل الى المرتزقة الذين يحسنون الدس والإساءة الى الناس, فقد كتب عنه المتنبي قصائد بالغة الروعة فنيا وبالغة المرارة من حيث الإحساس والشعور, وقد رددها الناس في عصرها ومازالوا يرددونها الى الآن, وأصبحت الصورة التي رسمها المتنبي لكافور هي الصورة الشائعة عنه حتي اليوم, وهي صورة بالغة السوء, أما صورة كافور في التاريخ فلا يذكرها أحد إلا المتخصصون في الدراسات التاريخية والمؤرخون أحيانا يرفضون شهادة الشعراء, رغم أن الشهادة الشعرية إن كانت قوية وصادقة تكون أكثر تأثيرا وأوسع انتشارا وأبقي في الأرض.
في كل بيئة أدبية وثقافية يظهر المرتزقة والموهوبون, ويدور بينهما صراع عنيف ينتهي بانتصار أحد الجانبين, وللأسف فإن الموهوبين هم الذين يتعرضون في معظم الأحوال للهزيمة, لأن عددهم أقل, ولأنهم ينصرفون بجهودهم إلي تنمية مواهبهم والتعبير عن هذه المواهب بأفضل صورة, فالموهبة تحتاج إلي الاتقان, والموهوب الحقيقي لا يلتفت الى المؤامرات والدسائس أو يفكر فيها وإلا فقد قدرة التركيز على موهبته, وهذا التركيز هو مهمته الأولي في الحياة, وفي المقابل فإن مرتزقة الأدب والثقافة يعيشون علي تلك المؤامرات والدسائس, لأن هؤلاء المرتزقة إن كانوا موهوبين في شيء فإن ذلك هو صناعة التآمر, والعمل الأصلي لهؤلاء المرتزقة هو شن الحرب على الموهوبين وتنكيد عيشهم ووضع العقبات في طريقهم.
ونعود الى بعض الصفحات في تاريخ الأدب العربي, لنجد أمامنا فصلا مؤلما من فصول الحرب المستمرة والمتكررة بين المرتزقة والموهوبين, ويتجسد هذا الفصل في قصة المتنبي مع الحياة الأدبية في مصر, في عصر كافور الإخشيدي, ففي هذا العصر جاء المتنبي الى مصر وقضي فيها مايقرب من خمس سنوات دون انقطاع, وكان المتنبي يمثل أرقي ما وصلت إليه الموهبة الشعرية العربية في عصره, ولم يكد المتنبي يصل الى مصر حتي ثار الحسد والحقد في قلوب المرتزقة الذين أحسوا منذ اللحظة أن وصول المتنبي العظيم فيه خطر غير محدود عليهم, وعلى ما هم فيه يرتعون من مناصب وممتلكات مادية مختلفة تتيح لهم الرخاء والاسترخاء, وقد كان هؤلاء المرتزقة جميعا بالنسبة للمتنبي من أصحاب المواهب المحدودة أو المتوسطة في أحسن الأحوال, ولم يطق هؤلاء المرتزقة وجود المتنبي في مصر, لأن المتنبي سوف يطفيء نورهم ويقضي على انفرادهم بالنفوذ والسلطة, بما يملكه من قوة العبقرية والنبوغ, مع شدة اعتزازه بكرامته الفنية والشخصية.
كان المتنبي قد ترك سيف الدولة في حلب بعد أن قضي في بلاطه تسع سنوات, هي أسعد سنوات عمره وأخصب مراحل إبداعه الفني, فقد كتب خلالها مجموعة من أروع قصائده, وعندما علم كافور, حاكم مصر في ذلك الحين, بنبأ الخلاف الذي نشأ بين سيف الدولة والمتنبي, بذل جهدا كبيرا لاقناع المتنبي بالذهاب الى مصر. وأعطي للمتنبي وعودا كثيرة, حتي وافق المتنبي على التوجه الى مصر فوصلها سنة346 هـ وبقي فيها الى سنة350 هـ. وفي مصر كان هناك طبقة من المثقفين تحيط بكافور الإخشيدي, وكان على رأس هؤلاء جميعا وزير هو جعفر بن الفضل بن جعفر الذي كان معروفا باسم ابن حنزابة نسبة الى أمه وكان اسمها حنزابة ولا أدري من أين جاء هذا الاسم, وأغلب الظن أنه اسم فارسي أو تركي. المهم أن الوزير ابن حنزابة هذا قد طمع في أن يمدحه المتنبي ببعض شعره, ولكن المتنبي لم يتجاوب مع رغبات الوزير, ولعل المتنبي كان يحس أنه لم يأت الى مصر ليمدح كل من هب ودب, وكل من يستحق أو لا يستحق, هذا والمتنبي لم يقطع صلته بسيف الدولة, ويطوي المسافات الشاسعة ليمدح الوزراء وأشباه الوزراء, ومن هنا بدأ ابن حنزابة في التآمر على المتنبي وتشويه سمعته والعمل على
إثارة حاكم مصر كافور الإخشيدي ضد هذا الشاعر العظيم.
أخذ الوزير الموتور يردد في كل مكان بأن المتنبي يسرق معانيه من شعراء آخر, فهو ليس بشاعر ولكنه لص, كذلك أخذ الوزير يجمع حوله بنفوذه عددا من مرتزقة الشعر والأدب ليجعل منهم حزبا ثقافيا ضد المتنبي, وكان بين هؤلاء شاعر اسمه أبو القاسم ابن العفير فأخذ يهجو المتنبي بشعر محدود القيمة, لا جمال فيه ولا عمق ولا صدق, وكان من بين هؤلاء أيضا عالم لغوي هو محمد بن موسي بن عبدالعزيز الكندي, وكان الناس يسمونه الموسوس, وإن كان قد اشتهر باسم سيبويه المصري وأخذ هذا العالم اللغوي الذي انضم الى حزب المرتزقة يمشي في مجالس العلم ومنتديات الثقافة والأدب معلنا على رؤوس الجميع أن المتنبي يخطيء في اللغة والنحو, وأخذ سيبوبه المصري هذا يتصيد الأخطاء للمتنبي ويفتعل ذلك افتعالا شديدا وينشر علي الناس نبأ هذه الأخطاء المفتعلة, كل ذلك رغم أن المتنبي كان بجانب موهبته الشعرية من أعلم الناس باللغة العربية, ومن أكثرهم فهما وذوقا ومعرفة بأسرار هذه اللغة, ولو لم يكن المتنبي شاعرا كبيرا لكان من عظماء اللغويين, ومع ذلك فقد أصبح الهم الأكبر لسيبويه المصري هو أن يسيء الى المتنبي ويهدم سمعته الأدبية الرفيعة وينغص علىه حياته في مصر,
فكلما أنشأ المتنبي قصيدة جديدة أخذ سيبويه المصري يفتش في هذه القصيدة عن أخطاء, وعندما كان يعجز عن الوصول الى مثل هذه الأخطاء, فإنه كان يلفق العيوب والمآخذ التي لا تقوم على أي أساس من المعرفة أو الذوق, ومن المعروف أن علم النحو العربي حافل بالمدارس المتضاربة والمتناقضة, وبالامكان وصف ما هو صواب في مدرسة نحوية بأنه خطأ في مدرسة نحوية أخري, وهكذا يمكن اللعب بالنحو لتخطئة أعظم الأدباء, فهناك ألاعيب نحوية عند التحقيق فيها فإن العلم ينفيها بصورة كاملة. وتلك اللعبة السخيفة هي التي استخدمها سيبويه المصري في حربه ضد المتنبي من أجل القضاء على هيبته الأدبية. ومن الذين التفوا حول الوزير ابن حنزابة ضد المتنبي شاعر مصري هو ابن وكيع التنيسي نسبة الى جزيرة تنيس في منطقة بحيرة المنزلة في مصر, حيث ولد هذا الشاعر ومات هناك, وابن وكيع بالنسبة الى المتنبي يعتبر شاعرا متوسط الموهبة أو دون ذلك بكثير, ومع ذلك فقد شغل هذا الشاعر نفسه بتأليف كتاب عن سرقات المتنبي من شعر الآخرين, وأسماه باسم المنصف, والحقيقة أن هذا الكتاب لم يكن منصفا أبدا,
وهكذا وقف حزب المرتزقة ضد المتنبي, ذلك الموهوب الأعظم بقصد تحطيمه والإساءة الىه, وبقصد أكبر هو تطفيشه من مصر في أسرع وقت, حتي يرتاح المرتزقة ويناموا مطمئنين.
ولعل هؤلاء المرتزقة لم يجدوا لجهودهم أثرا كافيا, فقد ظل جمهور الأدباء في مصر والعالم العربي يتنافسون على حب المتنبي وقراءة أشعاره ودراستها وترديدها. ومن هنا كان على حزب المرتزقة أن يضرب ضربة أخري قاضية, وهي إفساد العلاقة بين حاكم البلاد كافور والمتنبي, فركزوا جهودهم على توصيل رسائل مستمرة الى كافور تحضه على الحذر من المتنبي والتخلص منه في أسرع وقت, فالمتنبي صاحب طموح سياسي, وقد يتآمر على كافور للاستيلاء على الحكم بدلا منه, وهي خطة معروفة ومتكررة عند أحزاب المرتزقة على مر عصور التاريخ المختلفة, فالمرتزقة يلتفون حول مراكز السلطة, ويصورون لأصحاب هذه المراكز أنهم هم المخلصون دون غيرهم, وبعد أن يجدو أذنا صاغية لهم, فإنهم يبدأون في العمل على تصفية أعدائهم والدس لهم والتخلص منهم, وذلك باتهامهم بأنهم ضد السلطة, وأنهم يعملون على هدم هذه السلطة ثم إقامة سلطة جديدة لهم, والمرتزقة لا يقدمون على شيء من ذلك إلا بعد أن يهيئوا الجو النفسي العام لكي تكون مثل هذه التهمة مقبولة, ومن هنا يسهل للمرتزقة أن يضربوا ضربتهم الأساسية ضد الموهوبين, ويبعدوهم عن الساحة ويقضوا عليهم, خاصة إذا كان هؤلاء الموهوبون من ذوي الاهتمامات السياسية الواضحة مثلما كان الحال مع المتنبي, مما قد يثير الشك والقلق حول هذه الشخصيات.
وهذا هو ماحدث مع المتنبي في مصر, فبعد أن كان كافور سعيدا الى أبعد حد بوجود المتنبي الى جانبه في مصر, تغيرت نفسيته تجاه المتنبي, ويبدو أنه لم يستطع أن يخفي مشاعره, وما كان باستطاعته أن يفعل, فالمتنبي شاعر شديد الحساسية, ولاشك أنه أدرك الانقلاب الذي حدث لكافور, فبدأ يخطط للهروب من مصر, ولم يكن كافور جاهلا بالأدب والثقافة, ولم يكن جاهلا بقيمة المتنبي وأهميته, فقد كان كافور كما قال عنه المؤرخون من محبي الشعر والشعراء, وكان كما يقول المؤرخ الذهبي في كتابه النجوم الزاهرة:.. عظيم الحرمة, خبيرا بالسياسة, فطنا ذكيا, جيد العقل, داهية, وكانت تتم عنده كل ليلة قراءة السير وأخبار الدولتين الأموية والعباسية. ومعني هذه الشهادة لكافور من جانب المؤرخ الذهبي والتي كررها مؤرخون آخرون في حق كافور أنه كان على استعداد لتقدير المتنبي وإعطائه حقه من الحرص عليه وتكريمه ورعايته وحمايته من الحاسدين والحاقدين, أي من حزب المرتزقة الذي يتصدي للموهوبين في كل عصر وكل مكان.. لقد كان ذلك ممكنا لولا حزب المرتزقة الذي التف حول كافور وآثار في قلبه الشكوك والمخاوف, مما أدي بكافور الى التضييق على المتنبي وبث العيون والرقباء عليه لمعرفة حركاته وسكناته, وأدي بكافور أيضا الى إخلاف وعوده للمتنبي, وبذلك انتصر حزب المرتزقة ضد المتنبي, وأصيب الشاعر العظيم بالضيق الشديد من وضعه الأليم, فهرب من مصر وكتب قصائده الهجائية العنيفة ضد كافور ورجاله, وشدد في قصائده هذه على حزب المرتزقة هؤلاء, فأدانهم وفضحهم في قصائد كثيرة وامتلأت أشعار المتنبي بعد خروجه من مصر بالمرارة, ولكنها كانت شعرا قويا خالدا, ولا يزال الكثيرون منا يرددون الى الآن الكثير من أبيات المتنبي ضد كافور ورجاله, وضد أحوال مصر في ذلك العصر الذي تقدم فيه حزب المرتزقة وانهزم حزب الموهوبين, ولاشك أن كافور قد خسر كثيرا بالميل الى المرتزقة الذين يحسنون الدس والإساءة الى الناس, فقد كتب عنه المتنبي قصائد بالغة الروعة فنيا وبالغة المرارة من حيث الإحساس والشعور, وقد رددها الناس في عصرها ومازالوا يرددونها الى الآن, وأصبحت الصورة التي رسمها المتنبي لكافور هي الصورة الشائعة عنه حتي اليوم, وهي صورة بالغة السوء, أما صورة كافور في التاريخ فلا يذكرها أحد إلا المتخصصون في الدراسات التاريخية والمؤرخون أحيانا يرفضون شهادة الشعراء, رغم أن الشهادة الشعرية إن كانت قوية وصادقة تكون أكثر تأثيرا وأوسع انتشارا وأبقي في الأرض.
محمد العاسمي- طالب رائع
- عدد المشاركات : 65
تاريخ التسجيل : 21/01/2009
مواضيع مماثلة
» المتنبي
» المتنبي في مواقف
» سرقات المتنبي
» صريح في الرضا والسخط عند المتنبي
» خيبة الأمل وجرح الكبرياء المتنبي
» المتنبي في مواقف
» سرقات المتنبي
» صريح في الرضا والسخط عند المتنبي
» خيبة الأمل وجرح الكبرياء المتنبي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى